رئيس التحرير: حسام حسين لبش
مدير التحرير: علي عجمي

يوسف شاهين… حكاية مصرية لا تنتهي

شارك

يبرز اسم يوسف شاهين كل عام في ذكرى رحيله، ليس كمخرج سينمائي عادي، وإنما كضمير فني حي يواصل إثارة النقاش حول حدود الفن ووظيفة السينما، ودور الفنان في المجتمع. لم يكن هدفه فقط سرد الحكايات، بل كان يهدف إلى تحريك المياه الراكدة في الساحة الثقافية، وتفسير العلاقة المعقدة بين الفرد والمجتمع، والتاريخ والهوية. أفلامه ليست مجرد مشاهد، بل هي نصوص قابلة للقراءة والنقاش، تتغير دلالاتها مع تغير الأزمنة وأسئلتها. هو من القلائل الذين تجاوزوا لقب “مخرج كبير” ليصبح فاعلاً بموقفه، واستخدامه للعدسة ليكون وسيلة مقاومة، تضيء المسكوت عنه، وتدين القمع والتكرار والخذلان في السياسة، والفن، والحياة بشكل عام.

البدايات في الإسكندرية

وُلد يوسف شاهين في الإسكندرية عام 1926، ولازالت المدينة تشكل جزءًا من روحه وأعماله، فصورة المدينة كانت دائمًا مرآة للانفتاح والتعدد الثقافي. نشأ وتربى في بيئة غنية بالانتماءات واللغات، والمذاهب والثقافات التي تتقاطع، مما زرع فيه حب التنوع ورفض فرض هوية واحدة أو فكر محدد. لم تكن الإسكندرية عنده مجرد خلفية، بل حالة ذهنية ورمزًا للحريات المسلوبة، كما أظهر في أفلام مثل “إسكندرية… ليه؟” و”إسكندرية كمان وكمان”، حيث قال عنها: “الإسكندرية هي أنا… البحر هو اللي بيكلملك، والغموض اللي جواّ كل حاجة.”

دراسته وتجربته في السينما

سافر إلى الولايات المتحدة للدراسة في معهد باسادينا بكاليفورنيا، حيث تلقى تعليماً سينمائيًا كلاسيكيًا، وتعرف على أساليب السرد الغربية، لكنه لم ينشغل بالسينما التجارية الهوليودية، بل عاد بموقف فني متمايز، يحمل وعيًا سينمائيًا مبكرًا وإحساسًا عميقًا بانتمائه للشرق، المتمرد على الواقع المصري. أسس منذ بداية حياته السينمائية مشروع سينمائي فكري، بدأه بأفلام مثل “بابا أمين” و”ابن النيل”، حيث صرح منذ البدايات بأنه مخرج يسعى قول شيء، وليس فقط بصنع الصور. في “ابن النيل”، وضع أولى لبنات مشروعه الواقعي، عبر قصة شاب من الريف يبحث عن ذاته، مدمجًا بين التوثيق والحكاية، والواقعية والإنسانية. كانت فلسفته أن الكاميرا ليست أداة جمالية، بل وسيلة لطرح الأسئلة.

مراحل تطوره الفني وتأملاته الذاتية

لم يكن يوسف شاهين مخرجًا يكرر نفسه، بل كان يطارد أسئلته عبر مراحل مختلفة من السينما، بداية من الواقعية الاجتماعية، مثل “ابن النيل” و”صراع في الوادي”، ثم تجاوز ذلك نحو الواقعية النقدية، لينتقل بعدها نحو سينما التأمل في الذات والتاريخ. في “باب الحديد” (1958)، أحدث ثورة في السينما المصرية، عندما أدى شخصية “قناوي”، البائع المعاق نفسيًا، بطريقة جريئة ومعالجة نفسية عميقة. رغم رفض الجمهور الأولي، أصبح واحدًا من أهم الأفلام العربية. قال شاهين: “الجنون مش بعيد عننا… والمهمش مش لازم يبقى غبي أو شرير.” مع أفلام مثل “الاختيار” (1971)، بدأ يمزج بين الشخصي والعام، وبين الواقعي والرمزي، وتطور الأمر في “إسكندرية… ليه؟” (1978)، حيث سرد سيرته الذاتية عبر مرآة مزدوجة، بين الطفل الذي يشهد الحروب والاحتلال، والمخرج الذي يتأمل ذلك، ويبحث عن ذاته من خلال تلك التجارب.

الذات في مواجهة المجتمع

لم يكن التأمل الذاتي تهربًا من الواقع عند شاهين، بل وسيلة لاكتشاف العلاقة بين الذات والمجتمع، والتاريخ، والسينما. في فيلم “حدوتة مصرية”، تساءل: “هل اخترت أم فُرضت عليّ؟”، وظل الصراع بين الإرادة والمصير حاضرًا في أغلب أعماله، مع استمرار الشك والبحث في مشروعه الفني. في “العصفور” (1972)، تفحص هزيمة يونيو 67 من الداخل، مشيرًا إلى أن الانهيار كان نتيجة فُسَاد داخلي، وقدم شخصية المواطن البسيط كمفتاح لفهم الانكسار، مؤكداً أن الاعتراف بالهزيمة هو بداية البطولة. لم يخفِ شاهين نفسه كموضوع للتحليل والنقد، خاصة في الثلاثية: “إسكندرية… ليه؟” و”حدوتة مصرية” و”إسكندرية كمان وكمان”، حيث جسد ذاته بجانبه، يتهكم، يعترف، ويثور على تناقضاته، ويرغب في أن يثير تفاعل المشاهدين بأسئلته أكثر من إعطائهم إجابات.

علاقته بالممثلين والنقاد

كانت علاقة يوسف شاهين بالممثلين مميزة، مليئة بالتجريب والانفعالات، وكانت تبحث عن الطاقة الخام والشرارة الحقيقية داخل الممثل، وليس الأداء المصفوف. كان يندفع للحوار معهم، ويحطم الحدود بينهم، ويحثهم على أن يكونوا صادقين أمام الكاميرا. قال الممثل خالد النبوي إن العمل مع شاهين أشبه بالوقوف عاريًا أمام مرآة، يرانا كما نحن ويطلب أن نكون أكثر. أما مع نجوم مثل عمر الشريف، فكان هو من اكتشفهم، وقادهم ليصبحوا نجمات، وقال الشريف: “يوسف علمني كيف أكون إنسانًا على الكاميرا، لا نجم فقط.” مع النقاد كانت العلاقة أقل استقرارًا؛ فالبعض رأى في أفلامه تمركزًا حول الذات وغموضًا، لكنه لم يكن يعير اهتمامًا لآرائهم، بل كان يرد بابتسامة حاسمة، معتبرًا أن السينما يجب أن تثير التفكير وتعمل على تشغيل العقل، وليس مجرد إرضاء العين فقط.

الانقسامات مع المجتمع والنقاد

في فيلم “إسكندرية… وكمان”، وضع ناقدًا أيضًا شخصية في العمل، ووجه إليه اتهامات بالتكرار والنرجسية، فرد عليه شاهين: “يمكن بيرجع علشان الواقع بيتكرر، وأنا ماقدرش أهرب من الألم ده.” وسمير فريد، أحد أهم النقاد، كتب أن سينما شاهين تتميز بالنزاع الدائم بين الجمال والشك، والنزعة للبحث عن الحقيقة. لذلك، لم يكن دائمًا محبوبًا، لكنه دائمًا حاضر كعلامة استفسار وانشغال دائم بالمبادئ والأفكار، وأصبح رمزًا لمخرج يرفض الاستسلام للمؤسسة أو للرقابة، ويصر على أن يظل الفن موقفاً حاسمًا.

تحدياته خارج وداخل الوطن

رغم مكانته الدولية، لم يكن يوسف شاهين دائمًا متمدنًا من السلطة أو النخب المحافظة، فظل يتأرجح بين التكريم والانحسار، يتعرض للضغط والانتقاد في الداخل، بينما تميزت أفلامه بحضور وتقدير خارجي. شارك في مهرجان كان مرات عدة، وفاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى عن فيلم “وداعًا بونابرت” (1985)، الذي تناول حملة نابليون على مصر بمعالجة جريئة. لكنه لم يركز على الجوائز، بل على إيصال رسائله للجمهور. نال احترام المؤسسات الأوروبية والنقاد، وكرّمته معهد العالم العربي في باريس، لكن بقى يواجه الرقابة في مصر، خاصة مع أفلام مثل “المهاجر” و”الآخر”، التي اعتبرتها الجهات الرسمية مسيئة أو تثير الفتنة. كان يدرك هذا التناقض، ويقول: “أهم وسام حصلت عليه هو أني أرى نفسي في أفلامي.” في لحظة تكريمه بمهرجان القاهرة عام 2001، قال بشكل ساخر: “أخيرًا، تذكرتوني، الأحسن من لا شيء.” كان دائمًا يخلق استفتاءً للحوار، ويرى أن دور الفنان أن يحرك المجتمع، ويوقظ الوعي المدفون في النفوس.

الإرث والقاعدة بعد رحيله

عندما توفي يوسف شاهين في 27 يوليو 2008، فقدت السينما العربية أحد رموزها الكبار، لكن اسمه لا يزال حيًا عبر أفلامه ومشروعه وتأثيره. ترك إرثًا يضم أكثر من أربعين فيلمًا، تعتبر مرآة لتطوره وتغير أسئلته، بداية من أفلامه الأولى المتمردة على الواقع، حتى تحف الواقعية الاجتماعية مثل “الأرض” (1970)، وأعماله الذاتية مثل “عودة الابن الضال” و”إسكندرية… ليه؟”، التي عبر فيها عن ذاته، وعن الصراعات مع المجتمع والهواجس الشخصية. كما أنه خاض تجارب جريئة، مثل “المهاجر” و”الآخر”، التي تناولت صراعات الهوية والأفكار، وأخيرًا “هي فوضى” (2007)، الذي أشرف على إعداده مع خالد يوسف، وفسره البعض كتمهيد لغضب قادم.

استمرارية ثقافته وفنه

لم يعُد شاهين مجرد مخرج، بل أصبح مدرسة في التعبير الحر، وتاريخًا حيًا يُدرّس، ومصدر إلهام للأجيال الجديدة التي تتطلع إلى سينما تقول، تسائل، وتواجه الواقع. تم تقسيم إرثه إلى مدارس وحنين لمشروع واعٍ، لا يرضى بالسطحية، ويظل يحفر في جدلية السلطة، الحرية، الهوية، والجمال. وتُعرض أفلامه اليوم في دور سينما وأكاديميات في مختلف أنحاء العالم، وتُدرس ضمن مناهج السينما الحديثة، كأمثلة على سينما مقاومة، ملتزمة، ومتجددة، تعكس روح الجنوب بلا قيود.

إرثه الحي والمستقبل

حتى بعد مرور سنوات على رحيله، لا تزال أفلام يوسف شاهين تُعرض وتُناقَش، وتثير حوارات جديدة، تثبت أن روحه لم تغب، وأن صوته ما زال يتردد، يدعونا دائمًا للإحساس بالشك، والتفكير، وإعادة طرح الأسئلة الكبرى، كما قال: “اللي بيخاف من الحقيقة، ما يعملش سينما، يعمل إعلانات.” في زمن تتسابق فيه وسائل الإعلام والميديا، يبقى سينماه هو النقيض، الصادق والشجاع، الذي من خلاله نؤمن أن السينما ليست فقط للمشاهد، بل للحوار المفتوح والتحرر الحقيقي من قيود الجهل والخوف.

مقالات ذات صلة