يرسم شكسبير عبر حلم ليلة صيف عالماً مزدوجاً تتقاطع فيه عناصر النظام والحرية، في أثينا حيث القانون يحكم العلاقات وتضبط العائلة والسلطة مسار الحب، والغابة حيث يسيطر الخيال والسحر وتندمج الرؤية مع الرغبات المكبوتة وتتحول الواقعية إلى وهْم جميل أو قبيح وفق الحال.
تبدأ الرؤية بمونولوج هيلينا الذي يقول إن العاشق يبصر لا بالعين وإنما بالعقل، وإن الحب أعمى لا يرى الاختلافات. لا يقتصر هذا الكلام على الشكوى، بل هو بيان فلسفي يهيئ المتلقي لتجربة الشخصيات داخل الغابة.
في هذا العالم المزدوج تتبدل القوانين: أثينا تمثل النظام والقيود، وتظل العواطف مقيدة بقيود المجتمع والأبوة والسلطة، أما في الغابة فيسود السحر وتلتبس الرؤية وتتحول الإدراك إلى انعكاسات رغبات مضطربة وصور خيالية. يظهر لساندر ودميتريوس في حب متبدل بفعل السحر، وتتيانا تقع في عشق كائن مسحور ويتحوّل رأسه إلى رأس حمار فيسيطر على المشهد تحول القبح إلى جمال ويصبح الوهم واقعاً حاضراً.
بهذا المزج بين المزاح والسحر، يقدم بوك رسالة مركبة تطرح فكرة أن الحب لا يحكمه منطق ثابت، بل هو نتاج الخيال وتحوّله إلى قوة دافعة للفعل. وهو في الوقت نفسه صوت يواجه الجمهور في النهاية ليذكّرهم بأن ما شاهدوه ليس مجرد واقعة بل حلم، وتعيد النهاية النظام ظاهرياً، بينما يبقى أثر الخيال كقوة مؤثرة في وجود الإنسان.
وتدخل المسرحية داخل المسرحية عبر عرض الحرفيين لـ “بيراموس وتيسبي” كمرآة ساخرة للمبالغات الرومانسية، فهذه اللعبة الميتا-مسرحية تكشف وعي شكسبير بطبيعة الفن وتعيد تشكيل معنى الحب والوفاء في إطار هزلي يضيء جدية العاطفة برؤية نقدية.
وفي هذا العمل تبرز المرأة كقوة واعية وفاعلة، فهيلينا تسهم بفلسفتها في كشف طبيعة الحب، وتواجه هرميا صراعها مع سلطة الأب وقانون المدينة بشجاعة، وتيتانيا تمثل امرأة قوية تقبل الانجذاب حتى لو بدا في غير محله، وهذا يبرز تناقضات المجتمع الذكوري ويؤكد أن الحب تجربة إنسانية تشمل الجميع وليس رجلاً وحده.
يُظهر الليل وغموض الغابة كيف تتحول الرؤية وتتشوه الحقيقة وتصبح عناصر الخيال قاعدة للوجود، فالغابة ليست مجرد فضاء للحدث بل رمز للاوعي الذي يحرر الرغبات المكبوتة ويمنحها حرية التجسد، ويؤكد أن الخيال قوة أساسية لإعادة تشكيل الواقع حتى يعود الفجر إلى نصابه.
وتختتم الرواية بفكرة أن الحب ليس شرطاً ثابتاً، بل طاقة إنسانية تقود العالم إلى مسرح واسع من الخيال، مع عودة النظام ظاهرياً، لكن يبقى أثر الحلم كذاكرة تشكّك في حدود الواقع وتؤكد أن الخيال جزء أساسي من وجودنا، وأن الحب مهما بدا طائشاً يظل المحرك العميق للأحلام التي تشكّل وجودنا.
كما تبرز هذه القراءة أن العمل ليس مجرد حكاية بل رؤية وجودية تعلن أن الحب والخيال والسحر ليست عناصر جمالية فحسب، بل إشارات إلى طبيعة الإنسان. ولتصبح الرؤية أكثر عمقاً، أشير إلى أثر أستاذتي د. مها العوضي التي منحتني مفاتيح التأمل في النصوص، فساعدتني في صقل رؤيتي النقدية وجعلتني أدرك أن الحب والخيال والسحر في مسرح شكسبير ليست مجرد عناصر فنية بل دلائل إلى طبيعة الوجود نفسه.