رئيس التحرير: حسام حسين لبش
مدير التحرير: علي عجمي

جمال عبد الناصر يدوّن: الذاكرة لا تُباع وفاطمة الهواري لا تُصالح

شارك

يبرز المسرح كنصلٍ حاد يمزق ستائر النسيان، وتذوب الحدود بين الحياة والفن، ويقف الجسد والذاكرة وجهًا لوجه، لتُستحضر الحقيقة في أنقى صورها وأكثرها قسوة، وهنا لا يصبح المسرح مكانًا للتمثيل بقدر ما يغدو ساحة للشهادة، وصوتًا يخرج من عمق الجرح ليصير نداءً يتردد في آذان الحاضر والمستقبل.

ويختار غنام غنام أن يعيد للمسرح وظيفته البريختية الأولى، ويكسر الإيهام لا ليعلِّم بل ليشعل شرارة الوعي في العقل والوجدان، جاعلاً من الخشبة فضاءً أدبياً حيث الشعر يلتقي بالحقيقة القاسية، ليكون من ذلك المونودراما الجماعية التي تستحضر الصوت الفلسطيني بوصفه الشاهد الوحيد على حقيقة التاريخ.

فاطمة الهواري لا تصالح

يضع العرض فاطمة الهواري لا تصالح أمام مأساة ليست شخصية ولا محلية بل جرحاً جماعياً يصرخ في وجه العالم، فالذاكرة لا تُباع، والضحية لا تُصافِح جلادها.

يدرك المتلقي من اللحظة الأولى أنه ليس مشهدًا فحسب بل وثيقة مقاومة تُكتب بالحروف والصوت والصمت معًا.

يتنقل النص الذي صاغه غنام بين زمنين متباعدين، زمن النكبة وزمن المواجهة بعد عقود، لكنه يوحدهما في لحظة واحدة لا تنتهي، لحظة الفقد والرفض والكرامة.

يجعل من فاطمة لسان حال ذاكرة كاملة، ويجعل القاتل آبي ناتان صورة لزيف سردية الاحتلال التي تحاول أن تتجمّل برداء السلام بعد أن ارتكبت المجزرة.

يبتعد النص عن حد التوثيق ليزرع داخل كل مشهد شحنة شعرية قادرة على تحويل الخشبة إلى مرآة للوعي الجمعي.

يؤكد وجود الطيف الحارس – رمزي الشهيد – أن الغائبين لم يغيبوا، بل يحضرون كصوتٍ دائم في وجدان من بقي.

البساطة المشهدية وعمق الدلالة

يحوّل إخراج غنام غنام النص إلى فضاء حي يتجاوز حدود الحكاية، وكسر الحائط الرابع منذ البداية ليضع الجمهور في قلب السؤال.

أدار أماني بلعج فاطمة بروح تتنقل بين الفتاة الحلم والمرأة الشاهدة، بصوتها المتهدج وحضورها المكين.

أدّى أحمد العمري شخصية آبي ناتان إلى منطقة دقيقة، حيث يتقاطع الندم المزعوم مع إرث الدم، فكشف هشاشة السردية الإسرائيلية التي تحاول أن تساوي بين الضحية والجلاد.

ترك الكرسي المتحرك عجزاً إلى قوة، وجعل من الكوفيّة السوداء علماً للهوية والحداد معاً.

أدّت أماني بلعج فاطمة بروح تتنقل بين الحلم والشهادة.

جسّد الطيف الحارس وجود الغائبين كصوتٍ دائم في وجدَان من بقي.

استُهلت الموسيقى الفلسطينية العتيقة بداية العرض، فصارت الذاكرة حاضرة مع صوت فيروز يمنح الحكاية طابعاً إنسانياً.

ارتفعت نغمة ماهر الحلو فارتقى الإيقاع وصار النبض والصمت شريكين للحوار والجسد.

تشكّلت الإضاءة كسكين ضوء حاد تتنقل بين العتمة والوهج، لتذكّر بأن المسرح هنا ليس فرجة بصرية بل ترجمة حسية للدم والذاكرة، وكل تفصيلة في العرض كانت جزءاً من معمار دلالي متكامل.

ترسّخت كل تفصيلة في العرض كمعمار دلالي متكامل.

من النكبة إلى الآن: المسرح شاهد لا يصالح

يتجاوز العمل حدود المسرح ليصبح وثيقة إنسانية وسياسية وشعرية.

ويبقى السؤال حاضراً: هل يمكن أن يولد سلام على أرض لم تُرفع عنها يد القاتل؟

ويتردد صوت فاطمة كحكم لا يقبل الاستئناف: “لا تُصالح”.

مقالات ذات صلة