تشرح الأسرة واقع طفل لا يتجاوز الثالثة يمسك هاتفاً ذكياً بيديه الصغيرتين ويحدق في شاشة تلمع بالألوان والحركة. تبدو الصورة في الظاهر مريحة حين يظل الطفل هادئاً ولا يطالب بشيء، لكن فمه لا يجيد تركيب جملة من كلمتين. يبرز خلف هذا الهدوء صمت لغوي يتزايد ويبتعد به عن التواصل مع البشر لصالح لغة الشاشات. إن هذه الصورة تعكس مأساة تتكرر في كثير من البيوت عندما يحل الجهاز محل الوجه والحديث اليومي.
أثر الشاشات على اللغة والتواصل
يؤكد الواقع أن الكلام لا يولد من الضوء الذي يلمع في الشاشة بل من الوجوه التي يحبها الطفل. يتعلم الطفل الكلام عندما يطيل النظر في ملامح من يحب، ويراقب حركة الشفاه ونبرة الصوت وتبادل التعابير والضحك والتعجب، ثم يحاكيها بخجل جميل. عندما يحضر الهاتف بين الطفل وعالمه، يبدأ الجسر في التآكل ببطء وتتسع ساعات اليوم لتصبح مشاهدة صامتة بدلاً من الحوار الحي. تتلاشى الفرصة لسماع سؤال أو إجابة تقود إلى حوار مستمر.
يؤدي حل الهاتف بين الطفل وعالمه إلى تراجع الحوار وتقل فرص الرد والتفاعل الحقيقي، فالشاشة تتحكم في الإيقاع وتقدم نفسه كمرجع واحد لا يتجاوب. يسهم ذلك في تشتيت الانتباه وتراجع قدرة الطفل على الاستماع والتركيز في جملة قصيرة أو قصة بسيطة. ومع وجود مقاطع سريعة وتكرار مستمر، يعتاد الدماغ سرعة الإيقاع الرقمي ويجد صعوبة في الاستماع لحكايات هادئة.
تطرح الأسرة بدائل واقعية وتفرض إطاراً زمنياً لاستخدام الهاتف، فتمضي عشر دقائق يومية في حكي قصة يشارك فيها الأب والأم والطفل. يمكن أن تكون هناك أنشطة بسيطة مثل تسمية الأشياء في المطبخ أو الغرفة، أو تقليد أصوات الحيوانات والسيارات، بما يمنح الطفل قاموساً صوتياً ممتعاً. يؤدي الجلوس بجانب الطفل والحديث معه بلغة واضحة مع لعبة مشتركة إلى تعزيز النطق وبناء الثقة. تتواصل هذه الممارسة في تعزيز قدرة الطفل على الكلام وتخفيف الاعتماد على الإشارات الرقمية.
إن المسؤولية في النهاية تقع على الكبار، فالهاتف يمكن أن يبقى لكن بحجم مناسب وتحت إشراف مستمر. يجب أن يرى الطفل وجهًا حاضراً ويداً تمسك يده وصوت يناديه باسمه وقصة تروى له بشكل منتظم. حين يدرك الأهل أن التأخر اللغوي ليس فشلاً بل مساراً يمكن توجيهه، تتحسن فرص الطفل في الحديث بثقة وبصوت عالٍ. هذا المسار يحتاج فقط إلى ترتيب الأولويات وتوفير بيئة تواصل حقيقية في المنزل، لنمنح الطفل لغة تتسع لقصته وتعود به إلى عالم البشر.








