رئيس التحرير: حسام حسين لبش
مدير التحرير: علي عجمي

عبدالمنعم مدبولي وجهُ الأمان وصوتُ الحنان على خشبة الحياة ولأبنائه: إن أحببتموني فاحفظوا اسمي

شارك

فتح المهندس محمد عبدالمنعم مدبولي أبواب منزل العائلة في مصر الجديدة ليشاركنا ذكرياته عن والدِه الفنان، الذي لم يكن مجرد رمزٍ فني بل أب حنون وإنسان استثنائي ترك بصمة لا تُنسى في المسرح المصري وفي حياة أسرته.

يصف محمد والده بأنه ليس فقط مبدعًا كوميديًا بل مُربٍ صارم وقلبٍ إنساني عظيم، علّم أبناءه أن المحبة الحقيقية تقاس بالحفاظ على اسم العائلة وقيمها. وفي هذه السطور يتناول الأبناء ملامحاً لا يعرفها الجمهور عن “بابا عبده”، الفنان الذي قدّم الكوميديا بنقدٍ لطيف، والمأساة بروح الأب، وأثبت أن الإرث الفني لا ينفصل عن مسؤولية الإنسان.

يروي محمد كيف كان والده في الستينات يعمل بلا توقف لتكوين اسمه ونجمِه، فكان دائم الانشغال في المسرح التليفزيوني وفرقة الفنانين المتحدين، كما أسس المسرح الحر كمخرج وممثل وفرقة ساعة لقلبك. 50% من عمله في تلك الفترة، في الستينيات وبداية السبعينيات، وكل المسرحيات الكوميدية لمسرح التلفزيون كان إخراجها من نصيبه، فاسم عبد المنعم مدبولي نفسه كان يجلب الجمهور قبل أن تبدأ العروض.

ولم تكن إسهاماته مجرد عروضٍ ناجحة، بل ورشة اكتشاف نجوم. قال محمد إنه اكتشف مواهب كثيرة صارت نجوم الصف الأول؛ صلاح السعدني من مسرحية لوكاندة الفرانس، وعادل إمام من أنا وهو وهي، وفي فرقة المدبوليزم ظهر يحيى الفخراني وفاروق الفيشاوي وسمية الألفي، أما حسن حسني فاشتهر مع والده ثم انفصل عن الفرقة، وأحمد زكي بدأ مع أبي في هالو شلبي، وغيرهم من الأسماء الكبيرة.

رغم كثافة العمل، لم يتخلَّ مدبولي الأب عن أسرته. فكان في الإجازات يلعب معنا، ويؤجر لنا شقة في الإسكندرية طوال الصيف ليعرض مسرحيات هناك. يذهب للمسرح مساءً، وبعد انتهائه يعود إلى القاهرة لارتباطه بتسجيل إذاعي أو تليفزيوني أو سينمائي، ثم يعود في الفجر إلى الإسكندرية ليكون على المسرح في الثامنة والنصف. كان ينام ساعتين فقط، ثم يعود ليبدأ يوماً جديداً، وأحياناً لا يعود فيسافرونا نحن ووالدتنا لنقابله في محطة القطار شوقاً إليه.

أما عن شخصيته في المنزل فكان فاصلًا بين الحزم واللطف. في مرحلة المراهقة والإعدادي كان أباً صارماً يحافظ على المواعيد، فإذا كان لديه موعد الساعة السابعة، فلابد أن يكون موجوداً في السادسة والخمس وأربعين دقيقة. لكنه في الوقت نفسه صاحب قلبٍ طيب؛ إذا رأى طفلاً يبكي تدمع عيناه لأنه يعلم أن والده فقد أهله في صغره، وكان يقول لنا: لو طفل يبكي وليس مريضاً فأمه هي السبب. وكان يقول لنا أن نترك امرأتنا السيارة إذا مرض أحد الأولاد أو أصيب بجروح، ليذهب إلى الطبيب بسرعة، وأن نكون آباء مسؤولين ونوفِّر لزوجاتنا كل سبل الراحة.

تظل صورة والدهم حاضرة في قلوبهم كفنان قدّم أجمل المسرحيات، وكأبٍ حنون علّم أبناءه أن المحبة الحقيقية تقاس بتحمّل المسؤولية وبالحفاظ على الاسم كأمانة وتقديرٍ للمسار الفني والإنساني.

أبرز المواقف والتأثير العائلي

كان حبّه للجمهور ولأبنائه واضحًا، وكان دقيقًا في عمله إلى الحد الذي يجعل أطفاله يختبئون في الغرف أثناء التحضير لتصوير مشهد حتى لا يفقد تركيزه في التفاصيل الصغيرة. كما منع في المنزل الشكاوى المدرسية والشقاوة كي لا يمنع أحدهم من التربح من اسم العائلة وتاريخه الفني، فكان يقول لهم: إذا أحبّوني، فحافظوا على اسمي.

على مستوى العلاقة الأسرية، ظل والده يقدِّر وجودهم وحرصهما على الاستقرار. كان يحضر معهما إلى الإسكندرية أثناء التصوير، وكان محباً للمدارس الحكومية في المرحلة الجامعية، مع أن أطفاله درسوا في مدارس لغات وعبأوا تجاربهم الجامعية في الجامعات الحكومية، مع بعض الإجازات التي كان يقيمها مع الأبناء في الإسكندرية أثناء التصوير.

أمل عبدالمنعم مدبولي

تروي أمل عبدالمنعم مدبولي الجانب الحنون في شخصية والدها، وعلاقته الخاصة بها وبأبنائه وزوجته، وتكشف عن صداقته العميقة مع فؤاد المهندس وكواليس أعماله المسرحية والدرامية. تقول أمل: كان وجه أبي يشع بالأمان والحنان والقلب الكبير، فأبو عبده هو الأب المحب والمسؤول الذي جسّد في أعماله كيانه الأسري. أشاروا إليه بالبنان لأنه الأب والزوج الذي يعمل ليبني ويعلّم أبناءه ويؤمن لهم مستقبلهم، وهو الأب الذي يطلُب من بناته أن يبقى في قلبه وهو يفرح بزواجهم كما في فيلم الحفيد، ويسعى لأن يراهن بناته في لا يا ابنتي العزيزة، كما أنه الأب الذي يضطلع بدور الأب والأم في مسلسل أبنائي الأعزاء شكراً.

وتشير أمل إلى موهبة والدها الفنية التي جمع فيها بين الكوميديا والتراجيديا، وكم كان عبقرياً في أداء الدور أمام شادية وسهير البابلي، وتؤكد أن أغانيه للأطفال ما زالت راسخة في أذان الأجيال. وتستذكر أول مشهد في حياته عندما كان يتيمًا فقد والده وهو في سن ستة أشهر، وكيف حرصت جدته على تعليمه وتربيته، وتروي كيف أتحفها والدها بقصة من أمٍ حانية كانت تربيه وتعلمه مبادئ الأخلاق والاحترام، وكيف تعلم من ذلك صرامة الأب الذي يحافظ على مستقبل العائلة ومسيرتها الفنية.

تتحدث أمل عن مراهقة والدها، فكان خجولاً ومنطوياً، يهتم بالفن منذ صغره ويؤلف ويخرج ويمثل في المدرسة وتحت إشرافه الفريق الفني، ما نمّى موهبته وابتعاده عن مشاكل المراهقة. وتختم بأنه بفقدان والدها في سن مبكرة، تأثّر في تعامله مع أبنائه وأثر ذلك في حنانهم وتحمُّلهم المسؤولية، وتبقى صورة الأب الحنون تغمر قلبه وقلبهم.

علاقة بابا عبده بفؤاد المهندس والكواليس الفنية

تشير أمّال إلى علاقة فنية فريدة بين والدها وفؤاد المهندس؛ فكانا يقدّران الفن ويعاونان بعضهما بعيداً عن أي غيرة، فالأداء الذي قدّمه المهندس غالباً ما كان يحاضر في أحسن حالاته، وافتخر أمي بأن أبي كان يحرص دائماً على أن يصل أداء فؤاد المهندس إلى أقصى درجاته.

وتروي أمل جانباً إنسانياً من كواليس العلاقة بين فؤاد المهندس وشويكار: كان والدها يشعر بأن هناك قصة حب تجمع بينهما، ولكنه لم يتدخل، بل أعدَّ مشهدًا في المسرحية يجمع شويكار بفؤاد المهندس يعترف فيه فؤاد بحبه لها ويطلب منها الزواج، كتشجيعٍ له على التعبير عن مشاعره. كما تتذكر عندما اتصل فؤاد المهندس بوالدها في العناية المركزة، فحمله الطبيب إلى أذن والدها وأدرك حينها أن هذه اللحظات الأخيرة، وتُحدثها زوجة فؤاد المهندس بأنها رأت والدها يبكي عندما علمت بوفاة والدها، ففؤاد المهندس فقد صديقه ورفيق مسيرته في آن واحد، بعد نحو شهر من رحيل والدها.

الزوجة الصبورة رفيقة درب عبدالمنعم مدبولي

تصف أمل والدتها بأنها شريكة العمر والصبر؛ فكانت بنت صاحب البيت الذي كان يعيش فيه والد عبده وتعرفها منذ صغرها، ثم تزوج بها. كانت أمي تدرس الرسم وتتحمل عبء تدبير المنزل وتوفير الاستقرار، وترافق والدها في رحلاته بالخارج للتصوير وتجمع بين التربية وتوفير الاطمئنان للبيت. تعاني أمل من جرحٍ عميق حين أصيبت أمها بجلطة في المخ عام 2002، فتحول البيت إلى حالة حزن وافتقاد، وظل والدها حزينًا عليها حتى وفاته، وتروي كيف كانت أمها تبكي وتتصور أن والدها ما زال يعيش بينهم حتى حين رحلت هي أيضًا بعده بسنوات.

الخلاصة

رحل عبدالمنعم مدبولي بجسده، لكن أثره ظل نابضاً في ذاكرة الفن العربي وقلوب من عرفوه عن قرب، سواء كفنان قدّم أجمل المسرحيات أم كأبٍ حنون تعلم أبنائه معنى المسؤولية وحفظ الاسم أمانة.

مقالات ذات صلة