رئيس التحرير: حسام حسين لبش
مدير التحرير: علي عجمي

بين يدي الشهر الكريم ( الصيام وتصحيح المسار)

شارك

بقلم : د/ السيد البدوي
ليكن رمضان هذا العام تاريخيا تشير إليه الروح وتسعد به النفس كلما ذكرته أو تذكرته فتفخر به وتتفاخر ولن يكون كذلك إلا إذا كان نقطة تحول وشارة تغير على مفارق طرق الصائمين ولن يكون كذلك أيضاً إلا إذا وقف الإنسان في وجه شهوات جسده وأهواء نفسه وانطلقت الروح من أغلالها المكبِلة وأفقها المرئي وعالمها المحدود المنتهي. حيث اللانهاية حيث عالم الملكوت وحيث يمكن لها أن تتبدى لها الأشياء على حقيقتها وتتكشف لها حقائق أخرى بل يمكن لها حين تصعد هذا المرتقى أن تكون هي في نفسها حقيقة يتكشف لها الوجود كما هو .
إنه إنقلاب الداخل ليستقيم الخارج، وثورة تصحيح المسار الداخلي ليصح للنفس مسارها الخارجي في مواجهة الحياة، فلا أحد يماري في أن عبادة الصيام تغير الوجود للصائمين وبالصائمين بل وتغير وجودهم أنفسهم، وكله تغيير لن تجده إلا إلى أفضل ما أنت واجد حتى وإن المُجَرب ليشعر وكأن بدايته كانت مع بداية هذا الشعور، وإن من ذاق عرف ولا يذوق إلا من اطمأن بالعبادة واطمأنت إليه العبادة فأداها كما يحق لها أن تؤدى قياما وأداء وشعورا وعاطفة
ولست الآن بصدد الأخذ في عد فوائد الصيام الجسدية ومنافعة الصحية فهي أكثر من أن تُعد والطب الحديث كل يوم يغنينا عن البحث في مثل هذا بوقوفه على جديد فوائد الصيام وما يفعله من معجزات في الصحة الجسدية. وإن مثل رمضان في هذا – على حد تعبير بعض الأقدمين من الأدباء- كمثل برنامج علاجي من ثلاثين حبة دواء كل يوم يتناول فيه الصائم حبة ليتم له في نهايته خلاص جسمه من نفاياته وسمومه لتصح صحته بذلك .
ثم بعد ذلك ينبغي للصائم أن يزن نفسه بميزان المعاني الإنسانية – قبل وبعد أن يتلبس بالعبادة، وكلما تلبس الصائم بمعاني الإنسان وتشبعت به المعاني يعرف أنه قد أدرك في أدائه الجانب الحقيقي للعبادة ليرى من نفسه تخليا عن كَزِّها ودناءة مسلكها وحرصها وشحها وضيقها بالوجود. وأن العبادة (الصيام) صاغتها ونسجتها خلقا آخر، خلقا لن تراه على نفس الحد من الأثرة المهلكة التي هي رأس كل خطيئة وأساس كل بلية إن لم تكن هي بلية الوجود كله من يوم أن خلقه الله وبرأه؛ فلقد تراها راغمة عما كان تؤثره كثيرا، مستصغرة ما كان تراه كبيرا، محتقرة ما كان لديها عظيما، لترى في السلوك إنسانا له من سخاوة النفس وسماوة الطبع وكرم العطاء وإجادة اليد وسعة أفق ما يسع الوجود كله، بل سترى الوجود كله وكأنه وقد انكشف له عن معان جديدة على غير ما كانت له من ذي قبل.
ألم أقل : ” إن الصيام انقلاب الداخل ليستقيم الخارج ”
إن موضوع العبادات ” الأجل ” وقضيتها الكبرى، والصيام على الخصوص منها وفي المقدمة من مصفوفاتها هو : ” النفس” فهي ميدان النبوات ومقصد الرسالات، وهي العجيبة التي أعنتت أصحابها، ودوخت من كلفوا حياتهم إصلاحها، وأعظم إشكالاتها : ” الأثرة ” إذ قلما تبرأ نفس من أثرتها فهي إذا لم تسع لتستأثر جدَّ في السعي إليها ما يجعلها مستأثرة .
وترتيبا على ما سلف لا يمكن الادعاء بأن أمر الصيام وعمل الصائمين في الوصول إلى غايته العظمى هو أمر من الهوان والسهولة بحيث يمكن أن يناله كل من يريده ، دون شدة في نفسه، وعزم في روحه، وجلد وجسارة في وجدانه، إذ لا يُلقَّاه إلا الذين صبروا .
ولقد أومأ القرآن إلى صعوبة أمر الصيام في أصله وذلك حين نطقت الآية الكريمة وحددت حكمته العليا في تحقيق معنى “التقوى” من النفس وهي لفظة “فريدة ” تؤدى معناها أحسنه أداء وأجمعه وأمنعه وأفصحة وأنسبه إلى الحد الذي يقرر به بعض أهل العلم أنها لفظة قد انقرد بها القرآن الكريم في سياق الحديث عن إصلاح النفس وعلاجها، فلم ترد في كتاب سماوى سواه، كما لم يُلهمها أحد من الذين توفروا وتوافروا على النفس البشرية يتلمسون آفاتها راجين ما يخلصها من أوضارها، أوالذين بحثوا الضمير الإنساني منقِّبين فيه عن كل ما ينحرف به في محاولاتهم لإقامته على الجادة وإعادته إلى المسار الإنساني السليم، قال تعالى : ( يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )
ولأن الذي كتب الصيام من فوق العُلى يعلم أن تحصيل غاياته ابتداء من : إمساك النفس عن أدنى مراتب دناءتها (شهوتي البطن والفرج) مرورا بعرضها ومحاولة الصعود بها على مراتب السمو الإنساني (الرحمة) ، وصولا بها إلى أرفع نقطة في جامعة غايات الصيام : (التقوى)، أمر صعب شاق معنت مجهد –لأن الذي فرضه يعلم هذا – فلقد أخذ في تسهيله ومحاولة تهوينه، مسجلا، كاشفا : أولا: أن وجوبه لم تُخص به هذه الأمة فتكون بدعا من الأمم السابقة بل هو وجوب سبقت به هذه الأمة غيرها من الأمم السابقة على تباين في تفاصيل طريقة التشريع، ثم ثانيا: باللَّفْت إلى أن الوجوب ليس بالوجوب الدهري الذي يستغرق العام كله ولا حتى شطره ولا شطر شطره وإنما هو أيام معدودات لا تتجاوز الشهر من العام، ثم ثالثا : بالإشارة إلى تفصيل الترخص بأداء الفريضة في أيام أخر لمن لم يطق أداءها في الشهر بالمرض أو السفر
وما لجوء القرآن إلى مثل هذه المحاولات الاقناعية بسهولة الفريضة وتبسيطها والكشف عن تهوينها ليُقْدِم عليها المكلف دون إشفاق أو تردد أو خوف إلا لأن الأمر في ذاته عظيم وتحقيق المراد منه والحكمة فيه أعظم، إذ حمل النفس حملا والارتقاء بها على درجات سلم كمالها المنشود وانتشالها من ثقلة الطين حيث أسفل السافلين إلى خفة الهواء حيث أعلى عليين شأن لا يَجْسُر له أو يجلد عليه : المهازيل ولا الأشباه ولا خائروا الهمم وواهنوا العزائم
إن صيام الشهر فريضة تقوي الوجدان وتصقل النفس وتحرر الروح وتخلص الجسد، إنه منح من دون منحة، ونفحات تِبَاع نفحة واعلموا هذا إن شئتم في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ” يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يُزَادُ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ، وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ ” قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ كُلُّنَا يَجِدُ مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” يُعْطِي اللهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ أَوْ تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِمًا سَقَاهُ اللهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ مَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ فِيهِ غَفَرَ اللهُ لَهُ وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ ”
ثم لا يسعني في الختام إلا أن أسأل العلى الأعلى الذي فرض صيام الشهر على عباده وأوجبه عليهم أن يمدنا بمدده ويعيننا بعونه على صيام االنهار وقيام الليل وقراءة القرءان والإحسان إلى المساكين من عباده إذ لا مدد لذلك إلا مدده ولا عون عليه إلا بعونه …. اللهم آمين …. اللهم آمين …. اللهم آمين

مقالات ذات صلة