رئيس التحرير: حسام حسين لبش
مدير التحرير: علي عجمي

فيلم «أوبنهايمر»: حين نحوّل قبح مكتشف القنبلة الذرية إلى جمال

شارك

خاص – فاتن حمودي

 

«الآن أصبحتُ الموت، أصبحت محطم العوالم». أبدأ بهذه العبارة، التي رددها بطل فيلم «أوبنهايمر Oppenheimer» والمأخوذة من النص الهندوسي «بهاغافادا غيتا» والتي باتت لصيقة به. والفيلم للمخرج البريطاني كريستوفر نولان، المايسترو وصاحب الرؤية الإخراجية والأسلوب العبقري في السرد، الذي يتقن اللعب بالحكاية والصورة والزمن أيضا، ويضعنا أمام نص بصري كوني، ضبابي، مقلق، وفاجع أيضا. 3 ساعات تمرّ، دون أن تأخذ نفسا وأنت تتابع الفيلم الذي يتمحور حول سيرة حياة مخترع القنبلة النووية، ومدير مشروع مانهاتن النووي الأمريكي، أوبنهايمر، الذي حمل الفيلم اسمه، والذي بات حديث الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي قبل وأثناء عرضه، وبات يتصدر التريند، فيما حصل على تقييم 8.9 تبعًا لموقع IMDB العالمي، في الأيام الأولى للعرض.

والفيلم يدفعنا للتساؤل حول الحرب، وسباق التسلح، ومدى انعكاسهما على كوكب الأرض، ولكن أن نتعاطف مع الذي يقف خلف تدمير مدينة هيروشيما وناغازاكي، فتلك هي المسألة!

يبدأ الفيلم بمشاهد يتخيلها أوبنهايمر (كيليان مورفي) عن عالم من الضوء الساطع، عالم خفي من الشهب والنار، كتلك التي هرّبها بروميثيوس من جبل الأولمب إلى البشر في الميثيولوجيا الإغريقية، فعاقبه زيوس عقابا أبديا. فأن تقف أمام مشهد مرعب للتفجير النووي، وأن ترى الضوء في (نيومكسيكو) المختبر الأكبر للأسلحة، يشق ظلمة الصحراء، فأنت أمام مشهد مخيف، يصيب بالعمى. وما بين مشهد البداية، والذي وضعنا فيه المخرج أمام جلسة استماع لجنة الطاقة الذرية عام 1954 والتي ألغت التصريح الأمني لأوبنهايمر، ينتقل نولان إلى الماضي، المَعْبَر الصعب لحكاية مكتشف القنبلة الذرية.

وقد استوقفنا طويلا مشهد لقاء أوبنهايمر بالرئيس الأمريكي هاري ترومان، لاسيما حين عبّر أوبنهايمر عن مخاوفه وهواجسه تجاه السلاح النووي، وقال: «أشعر بأن يديّ ملطختان بالدماء» فيمد له ترومان منديلا كي يمسح الدماء، وجاء هذا كنوع من السخرية، وأخبره أن الناس سيتذكرون من ألقى القنبلة وليس صانعها، وعند مغادرته المكتب، قال لمساعده «لا أريد رؤية هذا المتذمر مرة أخرى في مكتبي». ويبقى السؤال واقفا كحدِ الزمن، ماذا ينفع تأنيب الضمير، وهل يلتفت السياسيون والعسكر وصنّاع القرار إلى صوت العلماء والفلاسفة والأدباء، كي يتوقفوا قليلا ويروا الخراب الشاسع الذي تسببه الحروب؟

تأتي أهمية الفيلم اليوم في ظل لحظة عالمية محتدمة بالصراعات والحروب، والتي يرتفع فيها صوت التهديدات النووية، من قبل روسيا، بعد أكثر من 70 سنة على إطلاق القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي، ولا يزال صوت الأطفال يتعالى في الكون، فيما تقف صور المتفحمين، أو الذين نجوا لكنهم أصيبوا بالسرطانات. يسلط المخرج الضوء على لقاء يجمع بين العالمين أوبنهايمر وآينشتاين، وقد توصل الأخير إلى أن الوطن الذي لا يعرف قيمتك فالأجدى أن تدير له ظهرك.

الفيلم يعيد تسليط الضوء على ما تركته هذه الكارثة على مدينة لوس آلاموس، التي شكّلت مسرحا للتجارب الذرية النووية، مدينة الموت، والإشعاع الذي تسبب بالسرطان واللوكيميا للأطفال والكبار وانعكس حتما على الأرض والحيوان والنبات، وهنا أستحضر قصة «ساداكو وطيور الكراكي»، للكاتبة إيلينا كوير، والتي قمتُ بترجمتها. ساداكو الطفلة اليابانية، التي أصيبت بعد إطلاق القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي بالسرطان، وبدأت تلعب على الحلم، هكذا هو الفن والكلمة والسينما، مهما بلغ من التراجيديا، فثمة خيط حرير أسمه الأمل، وهو ما نلمسه في فيلم «أوبنهايمر».

كانت مهمة أوبنهايمر هي التوصل إلى سلاح يوقف خطر النازيين في عهد هتلر، ووضع نهاية للحرب العالمة الثانية بتفوق أمريكي.

ولا يزال الزجاج الأخضر المشع يدخل مسام الأرض، ورئة الإنسان، منذ 1942 العام الذي شهد مخطط مانهاتن، وسلسلة من الاختبارات السرية، وكان أوبنهايمر نفسه، أحد ضحايا هذه التجارب، إذ أصيب بسرطان الرئة وكآبة وانزياح نحو العتمة، بعد أن تعرض لمحاكمات. وهنا برز دور العالِم ديفيد هِل (رامي مالك) الذي لم يتعدَ دوره الخمس دقائق فقط في الفيلم، ومع هذا أذهل بأدائه، وشهادته، وبنظرة عينيه، وبصوته. وهنا بدأت تميل عيون الجمهور نحو التعاطف مع أوبنهايمر، رغم تلطخ يديه بالدم، وبتنا أمام قلقه، قلق زوجته، انتقام وحقد أحد الزملاء في المشروع، واتهامه وزوجته بالشيوعية، في زمن رفعت فيه المكارثية، حمى معاداة الشيوعيين (الحمر) آنذاك، مقابل بروز تيار مناهض للسلاح النووي ولسباق التسلح، وظهر شعار «أن نكون حمرا (شيوعيين) أفضل من أن نموت» تزعمه الفيلسوف برتراند راسل، والكاتب آرثر ميلر، في مرحلة كانت الاتهامات بالشيوعية والتجسس للاتحاد السوفييتي والخيانة تلقى جزافا.

ويبدو أن أوبنهايمر كان صديق الأدباء، ويمتلك شعرية خاصة، تجلت من خلال علاقاته الاجتماعية، وإعجابه بفرويد وماركس، وبالفنان بيكاسو، وبصاحب «الأرض اليباب» إليوت، وقد وصف أوبنهايمر في الفيلم بالدونجوان، ورأينا عشيقته، وزوجته (إيميلي بلنت) وأطفاله، وأصدقاءه لاسيما آينشتاين، لهذا وصفه آرثر ميلر في مذكراته «انحناءات الزمن» بأنه أحسّ قبل وفاته بسنوات بتعذيب الضمير بعد إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي، وعاش الحزن والكآبة وانقطع عن العمل، وكان يكره أن يذكره التاريخ كصانع سلاح مُدمِّر.

في الفيلم، نجد أنفسنا أمام صور متعددة ومتناقضة، صورة العالم في صراعه مع ضميره، وصورة السياسي والعسكري الذي لا يعنيه سوى أمريكا والتسليح كمشروع قومي، والمقربين الذين يشتغلون بدم بارد على الانتقام وتشويه السمعة مثل روبرت داوني جونيور (لويس ستراوس) عالم كابوسي، يستند إلى ثقافة المحو، والانشطار.

كان حزن أوبنهايمر أشبه بالعقاب الأبدي الذي غرق فيه، مجسدا تراجيديا معاصرة، تشبه مأساة بروميثيوس في الميثولوجيا الإغريقية، لكنها بشكل مغاير، وهو ما أكده بطل الفيلم من أن علاقتنا المضطربة مع كوكبنا لهي العاقبة الأكثر وضوحاً لثقافة السيطرة على الطبيعة، لأنها في جوهرها حرب على الطبيعة. من هنا جاء اقتباس المخرج نولان سيرة أوبنهايمر من كتاب «بروميثيوس الأمريكي» للمؤلفين كاي بيرد ومارتن ج. شيروين، المتوج بجائزة «بوليتزر».

وفي هذا السياق أستحضر سؤال العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ: «كيف سيتمكن الجنس البشري من الدوام لمئة عام أخرى في ظل عالم تملؤه الفوضى السياسية والاجتماعية والبيئية؟». وكذلك إشارته إلى أن النجاح في إنشاء ذكاء اصطناعي يعتبر الحدث الأكبر في تاريخ البشرية، وقد يكون الحدث الأخير ما لم نتعلم كيف نتفادى المخاطر، ففي ظل غياب الفلسفة، يحضر دور السينما التي تضع المشكلة على مرأى ومسمع العالم.

الفيلم من بطولة كيليان مورفي (في دور أوبنهايمر) وروبرت داوني جونيور (الأدميرال لويس ستراوس) ومات ديمون (الجنرال ليزلي غروفز) وإيميلي بلانت ورامي مالك وفلورنس بيو، وغيرهم.

صُوّر الفيلم بالشريط-الرول، بكاميرا خاصة وبالطريقة التقليدية الآي ماكس. التحدي الأكبر هو الرؤية الإخراجية والتي تعكس نضج نولان في تركيزه على تفاصيل العمل، واللعب بالزمن، وتسلسل الأحداث، إذ يبدأ الفيلم من جلسة تحقيق بالاسترجاع، ثم يقدم عددا من مشاهد الفلاش باك للوصول إلى اختراع القنبلة الذرية.

كل مشهد إبداع، اللغة البصرية، الصورة عن قرب، عن بعد، الصمت، والموسيقى التصويرية للمؤلف والمنتج السويدي لودفيغ جورانسُن، التي شكلت خيطا حقيقيا منذ بداية العمل وحتى النهاية، الموسيقى التي عكست حالات القلق والخوف، ثلاث ساعات تمرّ ضمن مشاهد مكثفة على مستوى السرد، والقصة، والتصوير الذي يعكس الجانب النفسي لأبطال الفيلم.

داوني جونيور، الذي أدى شخصية ستراوس، أبدع في لغة الجسد والصوت والعينين، واستطاع تجسيد شخصية الانتهازي، والمنتقم، الطامح في الوصول إلى أعلى الدرجات، وهو في الأساس صانع أحذية، ربما تكون له وقفة على منصة الأوسكار.

وأبدعت أيميلي بلوند، وشكّل حضور المرأة صورة حقيقية لذاك الزمن.

فيما أبدع كيليان مورفي البطل، الذي مثّل بلغة وضوء العيون، هذا الضوء الذي حكى عنه فيزيائيا، بلغة الروح، يحفر في الشخصية بكل طاقته، بجمالية أحلام وخيبات وزمن.

ولأن السينما صورة، فقد شكّلت بطلا حقيقيا، في خفة الانتقال من كادر إلى آخر، والتي ترافقت مع موسيقى تصويرية شكّلت نصا جماليا، حيث العداد التنازلي التي سبقت القنبلة الذرية، منامات ويقظة وصحوة أسئلة وتغير مناخي، وصراعات، واحتدامات، كوابيس، ومحاكمات، كل هذا قُدّم بمونتاج عالٍ وبلغة سينمائية تعيد السيرة الذاتية إلى الألق والضوء.

يقول أوبنهايمر لقد علمنا أن العالم لن يكون كما في السابق، بعض الناس ضحكوا، وبعضهم بكوا، ولكن أغلبهم بقوا صامتين. أوبنهايمر، الفيزيائي الذي قاد أمريكا والعالم في طريق مشروع مانهاتن للقنبلة الذرية، ورسم مفترقا حقيقيا للطرق، رسم قصته، قصة رجل غيّر حال العالم مرة وإلى الأبد، ويبقى السؤال الأهم حول الوطنية، والموقف الأخلاقي من العلم، وإلى أي درجة كان أوبنهايمر أداة داخل منظومة أمريكا في سباق التسلح؟

وهل استطاع المخرج تحميل الفيلم فلسفته ورسالته إلى قادة الحروب والنووي، والعلم إن لم يكن معادلا لخير الكوكب والبشرية، فهو كما سمّى أوبنهايمر نفسه «الموت» ولا شيء غيره.

مقالات ذات صلة